مقال بقلم رئيس التحرير "محمد علی صنوبري":
هل تفشل القوى الاستعمارية في حربها على غزة؟
منذ اليوم الأول لشن عملية الإبادة الجماعية الإسرائيلية لشعب قطاع غزة، يرّوج الإسرائيليون وحلفاؤهم في الغرب لما يسمونه "اليوم التالي لانتهاء الحرب"، وتقوم نظريتهم هذه على أنهم سيقضون على حماس بالكامل في قطاع غزة؛ ومن ثم سوف تقوم إسرائيل بتقرير مصير من يحكم غزة.
إن هذه الخطة تقوم على أُسس التهجير القسري والجماعي للشعب الفلسطيني في غزة؛ ومن ثم تحويل القطاع إلى مستوطنات جديدة مثلما فعلت إسرائيل من قبل في القدس والضفة الغربية وباقي الأراضي الفلسطينية. ولكن واقع الميدان العسكري وساحة المعركة في غزة وجنوب لبنان والبحر الأحمر حولا هذا الحلم الإسرائيلي إلى كابوس، لتستفيق إسرائيل وتجد نفسها غارقة أكثر في رمال غزة، ولا مخرج من هناك إلا عبر تقديم تنازلات جديدة للمقاومة.
تغيّر في الأهداف الإسرائيلية لوقف الحرب الخاسرة
لم يكن نتنياهو وجوقته المتطرفة وحدهم من توهم النصر على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بل انخرط حلفاؤهم الأمريكيون بطريقة سريعة وعجيبة، في حرب الإبادة الإسرائيلية. وإذا ما أردنا تحليل هذا التدخل العسكري الأمريكي المباشر من خلال إرسال حاملات الطائرات وإنشاء جسر إمداد عسكري جوي لإمداد إسرائيل بالأسلحة والذخيرة، فإننا سنقول بأنّ هذا التدخل لم يكن مفاجئاً؛ وذلك لأن ما قامت به حماس وجناحها العسكري في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم يكن إذلالاً لإسرائيل وحسب، بل كان تهشيماً لما تبقى من الإمبريالية الأمريكية وسطوة القطب الواحد التي فرضها انهيار الاتحاد السوفييتي. عملية طوفان الأقصى كانت ضربة موجعة لتحالف الاستعمار، خصوصاً بعد الهزائم التي تلقاها هؤلاء في كل من أفغانستان والعراق.
وها هم اليوم وبعد مرور نحو شهرين ونصف الشهر يصلون إلى نتيجة، مفادها: دعونا نجد حلاً آخر غير الحرب لإنهاء هذه الفضيحة العالمية. لم تحقق عمليتهم العسكرية البرية أياً من أهدافها المعلنة والتي تركزت حول تحرير الأسرى الإسرائيليين، وتهجير الشعب الفلسطيني إلى صحراء سيناء، والقضاء على البنية التحتية لحركة حماس. بعد كل هذه العمليات فالفلسطينيون لا يزالون متمسكين بأرضهم ولن يغادروها أبداً.
كما أن إسرائيل فهمت وأدركت أنه لا تحرير للأسرى إلا عبر عملية تبادل، وهذا ما ظهر عبر تصريحات إسرائيلية تقول إن إسرائيل على استعداد لعملية تبادل تشمل قادة في المقاومة الفلسطينية وشخصيات تصنفها إسرائيل بالخطيرة. كما أن الرشقات الصاروخية التي تطلقها “القسام” باتجاه مستوطنات العدو دليل واضح على أنّه لا مساس بالقدرة العسكرية واللوجستية لحركات المقاومة في غزة. إضافة إلى ذلك، فإن تطورات الميدان تشير إلى تفوق فلسطيني على الأرض من خلال إشعال خطوط التماس مع العدو ومن خلال تحويل المناطق التي سيطر عليها الجيش الإسرائيلي إلى مناطق مواجهات، وهذا يدل على أن إسرائيل لا تملك شبراً واحداً آمناً من الناحية العسكرية لا في شمال غزة ولا في جنوبها.
وبناءً على أصوات البنادق والصواريخ فهمت الولايات المتحدة وحليفها نتنياهو أنه لا حلول عسكرية في غزة وأن الهزيمة أصبحت علنية، والعالم يشاهد هزيمة إسرائيل وحلفائها في قطاع غزة، ولذلك فهم يلعبون اليوم مسرحية جديدة لمحاولة تغطية هذه الهزيمة عبر لعبة قديمة يجيدها الغرب وهي لعبة حقوق الإنسان.
إن الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة، متمرسون في تبرير الهزائم وتجميلها بمصطلحات برّاقة كحقوق الإنسان ومساعدة المدنيين، وهذا ما فعلوه مثلاً عند انسحابهم من أفغانستان بعد عشرين عاماً من الجرائم والتنكيل بالشعب الأفغاني تحت مسمى فرض الحرية والديمقراطية بالقوة، وها هم اليوم يفعلون الأمر ذاته بالنسبة إلى قضية غزة، إذ بدأ الطرفان ترويج أهداف جديدة للحرب مثل إقامة منطقة عازلة أو الاقتصار على العمليات النوعية من استهداف لقادة المقاومة، هذه الأهداف الجديدة تختلف بشكل جذري عما كان معلناً من قبل الحكومة الإسرائيلية.
حصار البحر الأحمر معادلة صعبة
منذ دخول اليمن المعركة أدركت إسرائيل أنَّ تدخُّل أطراف إقليمية في حرب غزة أصبح واقعاً حتمياً وتخطى الجانب النظري. لم تفلح جميع التهديدات الأمريكية لليمن في تنحيته عن استهداف السفن الإسرائيلية، بل أربك اليمن معادلات الردع الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. فاليمن لم يكن مهتماً بإرسال الولايات المتحدة حاملة الطائرات إلى البحر الأحمر، واستمر بشكل منهجي في استهداف السفن الإسرائيلية؛ وهذا ما دفع إلى إخراج ميناء إيلات عن العمل بالكامل. إضافة إلى ذلك، يمثل استهداف الحوثيين السفن الإسرائيلية وتلك المتوجهة إلى الاحتلال ضغطاً كبيراً على الأسواق الإسرائيلية، بسبب طول الرحلات وارتفاع تكلفة التأمين، ما يرفع الأسعار في الأسواق الإسرائيلية، ويهدد بعض السلع بانتهاء تاريخ صلاحيتها سريعاً، فيما تشكل هذه الهجمات ضغطاً أيضاً على اقتصادات الدول، خاصةً الكبرى منها. ومع استمرار مهاجمة الحوثيين للسفن المتجهة لإسرائيل بالبحر الأحمر، أعلنت شركات شحن دولية وقف النقل مؤقتاً عبر البحر الأحمر، أبرز هذه الشركات هي: شركة “بريتش بتروليوم”، وسبقتها شركة “إم إس سي” الإيطالية السويسرية، ومجموعة الشحن الفرنسية “سي إم إيه، سي جي إم”، و”ميرسك” الدنماركية، فضلاً عن مجموعة “هاباغ-لويد” الألمانية.
وفق موقع “أتلانتيك كاونسل”، فإن قناة السويس تشهد عبور ما بين 50 و60 سفينة يومياً، وهو ما يمثل نحو 19 ألف سفينة سنوياً، وضمن ذلك ما يقرب من 30% من حركة الحاويات العالمية، وهو ما يمثل تريليون دولار من التجارة كل عام. إضافة إلى ذلك، يعتبر البحر الأحمر الذي يشرف الجيش اليمني عليه بالكامل، ممراً حيوياً بشكل خاص لنقل النفط والغاز الطبيعي المسال. ففي النصف الأول من عام 2023، مر نحو 12% من إجمالي النفط المنقول بحراً و8% من تجارة الغاز الطبيعي المسال العالمية عبر البحر الأحمر.
وبالنظر إلى هذه الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر وباب المندب، فقد قامت الولايات المتحدة بالتواصل مع الحوثيين عن طريق عُمان لتطلب منهم وقف الحصار على إسرائيل، لكن اليمنيين رفضوا جميع المقترحات الأمريكية وتمسكوا بمطلب واحد فقط هو: إيقاف الحرب على قطاع غزة.
ولإظهار الجدية في استمرار محاصرة إسرائيل وكرد فعل على إعلان وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، إطلاق عملية متعددة الجنسيات لحماية ما يصفونه بالتجارة في البحر الأحمر، فقد أعلن اليمنيون أنهم سيواصلون هجماتهم في البحر الأحمر، ومن الممكن أن يشنوا عملية بحرية كل 12 ساعة إلى حين إيقاف الحرب على غزة.
لم تمرّ إلا ساعات فقط على إعلان الولايات المتحدة تشكيل التحالف البحري إلا وانهار هذا التحالف بانسحاب كل من فرنسا وإسبانيا والعديد من الدول الأوروبية، لتضع هذه الحالة من الفشل الإسرائيلي بغزة والفشل الأمريكي بالبحر الأحمر كلاً من نتنياهو وبايدن أمام حقيقة مرّة وهي أنه يجب تقديم التنازلات وإن كانت هذه التنازلات ستأتي بعد مكابرة ورفض للحقائق.
ختاماً، بعد نحو شهرين ونصف الشهر من العدوان على قطاع غزة في سبيل تحقيق نصر رمزي لإسرائيل بعد الهزيمة المدوية التي تلقتها بعد “طوفان الأقصى”، يبدو أن المتطرفين في إسرائيل والولايات المتحدة توصلوا إلى نتيجة، مفادها أن رمال غزة تبتلعهم أكثر وأكثر كلما حاولوا التقدم، ولذلك ظهرت بوادرهم في إعادة عملية التفاوض حول الأسرى. إن العمليات البطولية لحركة حماس وباقي الفصائل الفلسطينية هي من قوضت جميع الأهداف الإسرائيلية والأمريكية، ولا بد أن نشير أخيراً إلى الدور الاستراتيجي الذي لعبه حصار البحر الأحمر وباب المندب والذي استدعى أن تقوم الولايات المتحدة بتشكيل قوة دولية انهارت مباشرة بعد تشكلها. ولا بد من التذكير بأنّ الصمود على النموذج الحالي الموجود في غزة سوف يدفع الطرفين الأمريكي والإسرائيلي إلى إعادة صياغة الأهداف من الحرب على غزة وتوقفها في النهاية.
*محمد علی صنوبري/ رئيس تحرير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية
تعليقك
- “المقاومة اللبنانية أسطورة الصمود في وجه الغطرسة الصهيونية”
- نظرة على إدارة ترامب الثانية /الحرب أو اللفتة السياسية
- المقاومة تتابع معادلة حيفا مقابل الضاحية بقوة
- معادلة حيفا والضاحية / الأمين العام لحزب الله يفي بوعده
- «كامالا هاريس» ضحية تداعيات سياسة «جو بايدن
- تأكيد على أهمية تحفيز الكتّاب على إبداع نصوص تنتصر لفلسطين
- فوز ترامب/دور المسلمين في هزيمة الديمقراطيين في الانتخابات
- د. محمد علي صنوبري: كيف ألهم حزب الله وحماس فكر المقاومة العالمية
- إذا هاجمت إسرائيل العراق،ستدفع تكاليف باهظة
- إحداثيات السلام الصهيوني / ما هدف مدعي وقف إطلاق النار في لبنان؟
- هل بدأ العد التنازلي لدوامة الفوضى في أمريكا
- السياسات الأميركية لا تتغير بتغيير الرئيس
- إستراتيجية بايدن.. تقطيع الوقت لغاية الإستحقاق الرئاسي