بقلم الكاتب العراقي مازن الزيدي:
عالم ما بعد سليماني والمهندس
مثلت احداث الربيع العربي الذي اجتاح دولا في غرب اسيا وشمال افريقيا زلزالا سياسيا واجتماعياً هو الأعنف الذي يشهده العالمين العربي والاسلامي بعد انتصار الثورة الاسلامية في عام ١٩٧٨.
وبينما كانت الثورة الاسلامية في ايران لحظة تكلّلت فيها نضالات الشعب الايراني بقيادة الامام الخميني (ره) ضد الهيمنة الغربية والسطوة على مقدراته بثورة حقيقية اخرجت ايران من المعسكر الغربي الى معسكر يقود محور التحرر والدفاع عن الشعوب المضطهدة.
لكن الربيع العربي، الذي تفاءل به الكثيرون، سرعان ما تحول الى خريف سلفي تصدرته تنظيمات متطرفة استقت دعمها من امريكا، حسبما صرحت بذلك وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون، ثم اكّد ذلك الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب.
لقد اتضحت صورة هذا المشروع الجديد سريعا في قلب العالم العربي، اي في سوريا الدولة الوحيدة التي حافظت على مكانتها في معارضة كل مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني.
واتضحت جليّاً ان الاحداث التي شهدتها تونس ثم ليبيا وبعد ذلك مصر ما هي الا تمهيد لاستهداف سوريا الحاضنة التاريخية للمقاومة الفلسطينية والظهير القوي للمقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله.
وعلى الرغم من التضليل وخلط الاوراق التي اتبعتها الولايات المتحدة وحلفائها في الحديث عن “دمقرطة المنطقة” والدفاع عن حرية الشعوب، إلاّ ان سيطرة التنظيمات المتطرفة والارهابية وملئها الفراغ، كشف خطورة المخطط الذي بدأ تنفيذه في المنطقة. انه استكمال لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحته الادارة الامريكية خلال فترة الرئيس الامريكي جورج بوش بعد احتلال افغانستان ثم احتلال العراق.
لقد استوعب محور المقاومة بقيادة الجمهورية الاسلامية بوعي واستشراف مسبق خطورة المخطط الامريكي بعد احداث ١١ سبتمبر، وتحوّل العراق وافغانستان الى ثكنات عسكرية أمريكية تهدّد ايران وتلوّح بالعصر الأمريكي الجديد.
من هنا لعبت المقاومة العراقية دورا مؤثرا في اجهاض المخطط الامريكي في استكمال “مشروع الشرق الاوسط الكبير”.
وفيما كانت المقاومة الوطنية في كل من العراق وافغانستان تواجهان الجيوش الامريكية بشجاعة وذكاء، لكن الادارة الامريكية لعبة ورقة الفتنة الطائفية من خلال فتح الباب للتنظيمات الارهابية وقتها لتكون المنطقة ساحة للحروب الداخلية والطائفية.
ورغم ذلك، لكن وضوح الرؤية والقراءة الستراتيجية التي كان محور المقاومة يتمتع بها نجح في المحصلة بإجهاض ورقة الحروب الداخلية وانتهى الامر بانسحاب امريكي رسمي من العراق في ٢٠١١. فيما تحولت افغانستان الى مستنقع استنزاف للجيش الامريكي الدي اضطر اخيرا للانسحاب بصورة مذلّة عام ٢٠٢١.
وليس مصادفة ان تندلع احداث ما يسمّى بـ”الربيع العربي” بعد اشهر قليلة من الانسحاب الأمريكي من العراق، والذي كان الاول من نوعه في التاريخ المعاصر. اذ لم تحظى امريكا بقواعد عسكرية في العراق كما حدث في المانيا واليابان وكوريا الجنوبية.
امريكا تعود من الشباك
بعد فشلها بفرض مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي تحتل فيه اسرائيل مكانة القوة العظمى المهيمنة على مقدرات دول وشعوب المنطقة، وبعد خروجها المذلّ من العراق، قررت الولايات المتحدة العودة للمنطقة من الشباك على ظهر التنظيمات الارهابية التي تم سحب فلولها من العراق وافغانستان واليمن وليبيا وتونس لتكون سوريا المسرح الميداني لاستكمال مشروع التقسيم على اسس طائفية اثنية خدمة للكيان الصهوني.
لعبت التنظيمات الارهابية والتكفيرية دورا واسعا في تنفيذ المخطط الامريكي في سوريا عام ٢٠١١، ثم العراق في ٢٠١٣ و ٢٠١٤.
فقد تم سحب القيادات التي نشطت في العراق واعتقل اغلبها في السجون الامريكية لاسيما سجن بوكا، الذي اعتبر بمثابة اكاديمية أمريكية لتخريج التنظيمات الارهابية. فقد خرجت هذه الاكاديمية الإرهابية العشرات من قيادات التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتهم كل من ابو محمد الجولاني ومساعده ابو محمد العدناني، قائدا تنظيم جبهة النصرة، وابو بكر البغدادي ومساعديه قبل انشقاقهم عن الجولاني وتشكيلهم تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وعلى الرغم من الانشقاقات التي شهدتها التنظيمات الارهابية في سوريا لكنها كانت تدار من خلال غرفتي عمليات امنية الاولى عبر تركيا سميت بـ”غرفة موم”، وعبر الاردن سمّيت بـ”غرفة موك”. وكلاهما كانا يخضعان لادارة السي اي ايه الى جانب مشاركة بعض انظمة المنطقة.
وباعتراف رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم فإن هاتين الغرفتين خصّص لهما مليارات الدولارات من اجل المضي بمشروع اسقاط سوريا وتقسيم المنطقة. وذكر جاسم في لقاء تلفزيوني ان مدير المخابرات السعودية طلب 2 ترليون دولار لاسقاط نظام بشّار الأسد لوحده!
وبينما كان العالم يتحدّث عن ثورة سورية بتأثير من سياسة الخداع والتضليل الامريكية لتجميل جرائم التنظيمات الإرهابية بحق الشعب السوري، لكنّ محور المقاومة كان واعياً لحقيقة هذا المخطط التخريبي.
من هنا كان انخراط الجمهورية الاسلامية عبر مستشاريها من الحرس الثوري بقيادة الجنرال الشهيد قاسم سليماني في الداخل السوري، ثم التحاق حزب الله وفصائل المقاومة العراقية وغيرها، يمثّل لحظة وعي تاريخية قلبت الموازين وانتهت بإجهاض هذا المشروع الذي أريد له ان يبدأ بسوريا ويعمّ كل دول المنطقة.
لقد نجح محور المقاومة في ايقاف تقدم المخطط الذي كان يزحف الى قلب العاصمة السورية دمشق، وكانت محطته التالية العاصمة العراقية بغداد.
العراق والشام.. جغرافيا المواجهة
ادّى نجاح محور المقاومة بتثبيت الدولة السورية ومنع سقوطها بيد التنظيمات الارهابية، كجبهة النصرة، والدولة الاسلامية، منذ اندلاع الاحداث في ٢٠١١ الى ٢٠١٤، لكي تفكّر الإدارة الامريكية بنقل المواجهة الى عمق جغرافيا المقاومة، اي العراق الذي مثل خطاً ستراتيجيا لإمداد جبهة سوريا بكلّ عناصر وعوامل الصمود.
في هذا التوقيت بالضبط تم دفع التنظيمات الارهابية تحت غطاء تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” المعروفة اختصارا بـ”داعش”، الى داخل الأراضي العراقية ليتم كسر الحدود مع سوريا ويتم احتلال الموصل في ١٠ حزيران ٢٠١٤ ثم الاندفاع لاحتلال ثلث الاراضي العراقية.
كان الهدف من ذلك مشاغلة محور المقاومة وجرّه للدفاع عن خطوطه الخلفية، وتوزيع تركيز المقاومة بين منع سقوط سوريا، وبين إيقاف تقدّم تنظيم داعش من الوصول الى العاصمة بغداد.
وهنا لقد لعب الجنرال الشهيد قاسم سليماني دوراً محوريّاً في ادارة المواجهة في العراق وتنظيم صفوف المقاومة العراقية لمواجهة داعش ومنع تمدّدها باتجاه بغداد ومدن الوسط والجنوب.
لقد أدار الجنرال سليماني محور المقاومة على جبهتين خطيرتين هما سوريا والعراق، وكان يتنقل بين خطوط القتال على امتداد خارطة المواجهة مع التنظيمات الإرهابية.
وبالرغم انهيار القطعات الأمنية في الجانب العراقي الذي فاجئ العالم واربك حسابات محور المقاومة المنشغل بصمود سوريا، إلا ان العالم أيضا تفاجأ بسرعة الهبّة الشعبية العراقية لمواجهة التهديد الإرهابي بعد اصدار اية الله العظمى المرجع الشيعي السيد علي السيستاني فتوى “الدفاع الكفائي” في يوم 13 حزيران. أي بعد 3 أيام فقط من سقوط الموصل.
شاهد العالم ملايين المتطوعين العراقيين يتسابقون لمعادلة الانكسار الذي لحق بخمسة فرق عسكرية من الجيش العراقي.
وقام بتنظيم هذه الجموع المليونية وتأهيلها للمواجهة، قائد عراقي اسمه أبو مهدي المهندس الى جانب الجنرال سليماني الذي قادّ جهداً متواصلا لتزويد العراق بالسلاح من مخازن الجيش الإيراني، بتوجيه من قائد الثورة الامام السيد علي الخامنئي، واحضار عشرات من قيادات حزب الله اللبناني لوقف المدّ الداعشي ثم دحره لاحقا في 2017، عندما اعلن رسميا تحرير مدينة الموصل التي اتخذها أبو بكر البغدادي عاصمة لخلافته المزعومة.
مثل القائد الشهيد أبو مهدي المهندس توأما لعقلية وروحية القائد الشهيد الجنرال قاسم سليماني في استشراف التحديات التي واجهت محور المقاومة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وصولا الى احتلال داعش لثلث العراق في 2014.
تحوّل الشهيد المهندس الى قائد اسطوري لدى العراقيين يذكرهم بأبطالهم الاسطوريين مثل كلكامش وانكيدو وبقية الالهة السومرية. لقد احبّه العراقيون من مختلف قومياتهم وطوائفهم بعد ان رأوا شجاعته وبسالته في الدفاع عن المستضعفين الذي اجتاحت داعش مدنهم واستباحت ارواحهم ومقدراتهم من الموصل الى حديثة والفلوجة وتكريت وديالى وغيرها من المدن العراقية.
وبعد ان كان الامريكان والغرب يتحدثون عن الحاجة لعدة عقود من اجل القضاء على داعش، باعتبارها مشروعاً جيوسياسيا رصد له تاريخ انقضاء طويل الأمد، استطاعت قوى المقاومة العراقية بقيادة القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس من هزيمة التنظيم خلال بضعة سنوات فقط.
اجهض القائدان الشهيدان الخطة باء لفرض مشروع “الشرق الأوسط الكبير”، وأصبح محور المقاومة حقيقة اجتماعية سياسية عسكرية تفرض وجودها لاجهاض المشاريع الامريكية الغربية.
ولدورهما الكبير والمؤثر في مواجهة المخططات الامريكية منذ احداث 11 سبتمبر، لم يكن غريبا ان يكون القائدان هدفاً دائما للتصفية من قبل الامريكان. وهذا ما كان بالفعل في صبيحة 3 كانون الثاني / يناير عام 2020 قرب مطار بغداد الدولي.
اعتقد الامريكان انهم باغتيال سليماني والمهندس سيتمكنون من قصم ظهر محور المقاومة وتفكيكه. لكن الاحداث التي تلت الجريمة النكراء اثبت ان مقاومة الوجود الأمريكي في غرب اسيا اخذ مسارا تصاعديا، وان المقاومة تحوّلت الى ثقافة شعوب المنطقة واجيالها الشابة.
وما نشاهده في فلسطين المحتلة منذ 7 أكتوبر الماضي هو صورة حقيقية لعنفوان وقوة ورسوخ المقاومة التي زرع بذرتها الشهيد سليماني، وشارك في تقويتها وحمايتها الشهيد أبو مهدي المهندس.
تعليقك
- “المقاومة اللبنانية أسطورة الصمود في وجه الغطرسة الصهيونية”
- نظرة على إدارة ترامب الثانية /الحرب أو اللفتة السياسية
- المقاومة تتابع معادلة حيفا مقابل الضاحية بقوة
- معادلة حيفا والضاحية / الأمين العام لحزب الله يفي بوعده
- «كامالا هاريس» ضحية تداعيات سياسة «جو بايدن
- تأكيد على أهمية تحفيز الكتّاب على إبداع نصوص تنتصر لفلسطين
- فوز ترامب/دور المسلمين في هزيمة الديمقراطيين في الانتخابات
- د. محمد علي صنوبري: كيف ألهم حزب الله وحماس فكر المقاومة العالمية
- إذا هاجمت إسرائيل العراق،ستدفع تكاليف باهظة
- إحداثيات السلام الصهيوني / ما هدف مدعي وقف إطلاق النار في لبنان؟
- هل بدأ العد التنازلي لدوامة الفوضى في أمريكا
- السياسات الأميركية لا تتغير بتغيير الرئيس
- إستراتيجية بايدن.. تقطيع الوقت لغاية الإستحقاق الرئاسي