2024/05/22
نسخ!

بقلم رئيس التحرير

النهوض من الرماد: صمود إيران الثورة والمؤسسات الذي لا يتزعزع

النهوض من الرماد: صمود إيران الثورة والمؤسسات الذي لا يتزعزع

کتب د. محمد علي صنوبري مدیر مرکز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية والبحوث المستقبلية في صحيفة الرأي الیوم الصادرة في لندن مقالا تحت عنوان النهوض من الرماد: صمود إيران الثورة والمؤسسات الذي لا يتزعزع.

بعد ليلة طويلة وشاقة بلغت ذروتها بالإعلان المأساوي عن استشهاد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان في حادث تحطم المروحية الرئاسية، اندلعت زوبعة من التساؤلات حول تداعيات غيابهما على المشهد السياسي في البلاد. وقد عاش العالم في صدمة بعد هذا الحادث المروّع إلا أنه في الوقت ذاته أوضح للشعوب وعلى الخصوص الشعب العربي كيف أن العيون الساهرة في بلد مثل إيران تعمل ليل نهار على الاستقرار وحفظ النظام مما يجعلها غير مرتبطة بالأشخاص.

لقد أظهرت إيران خلال الساعات الأولى للحادثة تماسك بنية الدولة ومؤسساتها وثقة شعبها بقيادته فلا حدثت فوضى ولا حدث فزع وهلع بين الأوساط الشعبية. وللإشارة إلى هذا التكاتف بين الشعب والقيادة علينا القول بان رئيسي ومرافقيه استشهدوا أثناء أداء مهامهم الوطنية ومن أبرز ما أوصى به الرئيس الإيراني الراحل كان خدمة الشعب التي قدمها على أي شيء أخر وهو نفسه الذي قال ذات يوم لا يجب تعطيل مصالح الناس حتى ولو لدقيقة واحدة.

وعلى الرغم من عمق الفاجعة، إلا أن الدستور الإيراني رسم بشكل استباقي مسارًا واضحًا ومنظمًا لمعالجة مثل هذا الفراغ السياسي، مما يؤكد على الآلية المنهجية والسلمية والفعالة لنقل السلطة داخل البلاد. إن هذا الرد السريع من قبل السلطات الرسمية، التي تمكنت من معالجة الفراغ الرئاسي في غضون ساعات فقط، هو شهادة على قوة ومرونة النظام السياسي الإيراني.

يعمل جهاز الدولة الإيراني من خلال مؤسسات ديمقراطية راسخة ومتجذرة في أسس الجمهورية الإسلامية. تاريخياً، واجهت إيران وتغلبت على محن مماثلة بقوة ووحدة لا تتزعزع. ففي عام 1981، وبعد أقل من عامين من تأسيسها، عانت الدولة الإيرانية حديثة الولادة من الاغتيالات الوحشية لرئيسها آنذاك محمد علي رجائي ورئيس الوزراء محمد جواد باهنر. وقبل ذلك، كانت قد فقدت بالفعل رئيس سلطتها القضائية، السيد محمد بهشتي، في هجوم إرهابي أودى بحياة العديد من الوزراء والبرلمانيين. ونجا المرشد الأعلى علي خامنئي نفسه من محاولة اغتيال في نفس العام. ومن هذه الأحداث المروعة، ظهرت إيران مراراً وتكراراً أكثر تصميماً وتحصيناً. لقد أثبتت البنية الثورية للأمة، المتجذرة في المبادئ الإسلامية، أنها أكثر استدامة وقوة من أي فرد أو مسؤول، مع ضمان صمودها وقدرتها على الصمود بفضل التزام إيران الإسلامية الثابت بالإسلام باعتباره دستورها النهائي.

ومن عجيب المفارقات أن الاستشهاد المتكرر لقادتها كان سبباً في تعزيز استقرار إيران وتقدمها. ففي كل مرة يستشهد فيها زعيم، لا تتعافى إيران فحسب، بل تتقدم أيضًا في مسارها التنموي. عندما توفي آية الله الخميني، الأب المؤسس لإيران الحديثة، استمرت الأمة في التطور والتمسك برؤيته، وخاصة في دعمها الثابت للقضية الفلسطينية. وقد انعكست هذه المرونة في أعقاب اغتيال الشهيد قاسم سليماني، حيث ظلت إيران صامدة وحازمة. وتطور محور المقاومة بالشكل الذي نراه اليوم في مواجهة إسرائيل جاء بعد اغتيال قاسم سليماني حيث استمر رفاقه في المحور (في فلسطين وإيران ولبنان وسوريا والعراق واليمن) في بناء القدرات والاعتماد على الذات وشهدوا جميعهم ثمار هذه الجهود من خلال عملية طوفان الأقصى المباركة التي نفذها أبطال حماس وأبطال المقاومة الفلسطينية والتي تتردد صداها اليوم في كل بقعة من بقاع الأرض.

كمراقبين، لا يسعنا نحن العرب إلا أن نأسف للتناقض الصارخ بين استقرار إيران وقوتها والوضع المضطرب في العديد من بلداننا. حيث تقف إيران باعتبارها الدولة الوحيدة التي واجهت بجرأة الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وتعمل بلا كلل لطرد القوات الأمريكية من الشرق الأوسط. وهي الدولة الوحيدة التي ضربت القواعد الأمريكية بصواريخها الدقيقة بشكل مباشر وتبنت هذه العملية مباشرة. ومنذ فجر ثورتها، كانت إيران من أشد المؤيدين للقضية الفلسطينية، وأعادت تشكيل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط وخارجه.

ومن الأمثلة الواضحة على موقف إيران الثابت تجاه قضايا الأمة الإسلامية هو ما حدث خلال ليلة شنت فيها قواتها الفضاجوية هجوما غير مسبوق، استهدف إسرائيل بشكل مباشر من الأراضي الإيرانية. وفي عملية منسقة بدقة، أطلقت إيران 300 صاروخ وطائرة بدون طيار على أهداف عسكرية محددة داخل إسرائيل، محققة دقة مدمرة. ومن أبرز هذه الأهداف القاعدة العسكرية المسؤولة عن الهجوم الإسرائيلي الجبان على القنصلية الإيرانية في دمشق. وأكد هذا الإجراء الحازم قدرة إيران وتصميمها على الدفاع عن مصالحها والرد على أي عدوان.

إن السرد الإيراني لا يتعلق فقط بالدولة أو قادتها؛ إنها تتعلق بالروح الجماعية لشعبها والتزامهم الثابت بمبادئ أمتهم. إن هذه الوحدة والمرونة تجعل من إيران قوة هائلة على الساحة العالمية، وثابتة في دعمها لحركات التحرر في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من خسارة إيران لقادتها، فإن مسار إيران يظل دون تغيير، كما أن تصميمها لم يتضاءل.

إن الآثار المترتبة على الخسارة المفاجئة للرئيس رئيسي ووزير الخارجية عبد اللهيان عميقة. ويترك غيابهم فراغاً كبيراً في القيادة، إلا أن النهج المنهجي المتأصل في دستور البلاد يضمن استمرار إيران في العمل بسلاسة. وتعكس الآليات المعمول بها لمثل هذه الحالات الطارئة وجود نظام سياسي ناضج قادر على تحمل الصدمات والحفاظ على الاستمرارية.

يعد هذا الحدث المأساوي بمثابة تذكير بالتقلب وعدم القدرة على التنبؤ المتأصل في المشهد الجيوسياسي. ومع ذلك، فهو يسلط الضوء أيضًا على مرونة دول مثل إيران، التي لا تكمن قوتها في قادتها الأفراد، بل في الإرادة الجماعية وتصميم شعبها. إن قدرة إيران على الإبحار عبر مثل هذه الأزمات دون الانزلاق إلى الفوضى هي شهادة على استقرار مؤسساتها.

وفي الختام، فإن الاستشهاد المأساوي للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان في حادث تحطم طائرة هليكوبتر كان له تأثير عميق على الأمة. ومع ذلك، فإن الاستجابة السريعة والفعالة من قبل الدولة الإيرانية، مسترشدة بإطارها الدستوري القوي، نجحت في التخفيف من خطر عدم الاستقرار السياسي. يسلط هذا الحادث الضوء على القوة الدائمة والمرونة التي تتمتع بها إيران، وهي الدولة التي أثبتت باستمرار قدرتها على التغلب على الشدائد والخروج أقوى.

ومع استمرار إيران في التغلب على مثل هذه التحديات، فإنها تظل لاعباً رئيسياً على الساحة الإقليمية والعالمية. إن دعمها الثابت لقضايا التحرير، ولا سيما موقفها الثابت من القضية الفلسطينية، يجسد جوهر سياساتها الخارجية. إن روح إيران وشعبها تذكرنا بطائر الفينيق الأسطوري ففي كل مرة بنهض من الرماد، ليصبح أقوى من ذي قبل.

تعليقك

الصفحات الاجتماعية اختيار المحرر آخر الأخبار كاريكاتير صورة اليوم