رای الیوم/د. محمد علي صنوبري؛
التشييع الذي هز العالم: قوة حزب الله في الوحدة والمقاومة

رای الیوم /د. محمد علي صنوبري: من يعتبر تشييع شهداء حزب الله الأمينان العامان السابقان السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، مجرد موكب حزن أو محاولة لرفع معنويات الحزب وأنصاره، فهو مخطئ بشكل كبير. إن أهمية هذا الحدث تمتد إلى ما هو أبعد من الحزن والتضامن؛ لقد كان دليلاً على صمود الحزب وبراعته التنظيمية وقاعدته الشعبية التي تظل ثابتة على الرغم من التحديات والتهديدات التي يواجهها.
قاعدة شعبية تشكل المقاومة
على عكس الحركات السياسية التقليدية التي تعتمد على التعزيز الخارجي للحفاظ على التماسك، فإن أساس حزب الله راسخ بعمق في قاعدته الشعبية. هذه القاعدة ليست مجرد مجموعة من المؤيدين بل هي القوة ذاتها التي أنجبت الحزب وحافظت على مقاومته ضد الاحتلال والعدوان.
لم يكن الناس الذين غمروا الشوارع بمئات الآلاف مدفوعين بدعوة منظمة للدعم. ولكن بدلاً من ذلك، فقد تحركوا بشكل عضوي لتكريم قادتهم وإعادة تأكيد التزامهم بمسار المقاومة. هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين شهدوا الطرد المذل للقوات الإسرائيلية من جنوب لبنان في عام 2000، والذين احتفلوا بصمود حزب الله في حرب عام 2006، والذين شاركوا بنشاط في النضال لصد قوات الاحتلال في عام 2025 وتحركوا بصدورهم العارية نجو الجنوب لطرد قوات الاحتلال من هناك. إنهم هم الذين وقفوا جنبًا إلى جنب مع المقاومة في معركتها لدعم غزة وغيرها من القضايا العادلة في المنطقة.
لقد تحدى حجم المشاركة الهائل في هذه الجنازة الانقسامات الطائفية والحواجز الاجتماعية. لم يكن مناصروا حزب الله المخلصون هم الذين انضموا إلى الموكب فحسب، بل ممثلون من جميع شرائح المجتمع اللبناني. وعلاوة على ذلك، كان الحاضرون من أكثر من 80 دولة – من الشرق الأقصى إلى الغرب – حاضرين، مما أرسل رسالة مدوية مفادها أن نضال حزب الله يتجاوز الحدود ويُعترف به عالميًا كحركة مقاومة وعدالة وتحدي ضد الظلم.
استعراض لقوة تنظيمية لا مثيل لها كان أحد الجوانب الأكثر لفتاً للانتباه في التشييع هو قدرة حزب الله على فرض أعلى مستويات الانضباط بين الحشود الضخمة. ففي حدث بهذا الحجم، حيث تشتعل المشاعر ويمكن أن تتحول التوترات بسهولة إلى فوضى، حافظ الحزب على السيطرة المطلقة.
وعلى الرغم من الحجم الهائل للتجمع، لم يتم تسجيل أي حوادث عنف أو فوضى. وتم التعامل مع الطرق المؤدية إلى موقع التشييع، والموكب نفسه، وتفريق الحاضرين في النهاية بدقة متناهية. ولم يتم إطلاق رصاصة واحدة في الهواء، وهو أمر شائع في جنازات المنطقة، مما يدل على أن حزب الله لا يزال مسيطراً بالكامل على شعبه حتى في لحظات الحزن والأزمة. وقد دحض هذا الروايات التي روجها الخصوم الذين اقترحوا أن الفراغ القيادي في الحزب، الناجم عن استشهاد شخصيات رئيسية مثل الشهيد نصر الله، من شأنه أن يؤدي إلى الفوضى الداخلية وفقدان السيطرة على صفوفه.
لم يكن هذا المستوى من التنظيم مجرد عرض للخبرة اللوجستية؛ لقد كانت هذه رسالة مباشرة إلى أعداء حزب الله مفادها أن انضباطه وهياكله القيادية لا تزال سليمة. وتستمر الأطر العسكرية والاجتماعية والتنظيمية للحزب في العمل بأقصى طاقتها، مما يضمن قدرته على إدارة التحديات المدنية والقتال بنفس الكفاءة.
ضربة نفسية لمعارضي حزب الله لقد أرسل مشهد مئات الآلاف يتدفقون إلى الشوارع لدعم حزب الله بلا هوادة موجات صدمة عبر صفوف أعدائه، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. لقد أدى الحجم غير المسبوق للجماهير المشاركة في التشييع، إلى جانب التنظيم الدقيق للحدث، إلى تفكيك أي فكرة مفادها أن قوة حزب الله تتضاءل في أعقاب الصراعات الأخيرة.
لقد أعلن العديد من معارضي حزب الله بشكل مبكر عن زواله بعد سلسلة من الاغتيالات البارزة والضغوط العسكرية المتواصلة. وقد دفع المحللون الصهاينة والغربيون بحماس الرواية القائلة بأن الحزب على وشك الانهيار. ومع ذلك، إذا كان حزب الله قد ضعف حقًا إلى حد التفكك، فإن كيان الاحتلال وحلفائه كانوا سيغتنمون الفرصة لتوجيه ضربة نهائية بدلاً من الموافقة على وقف إطلاق النار. والحقيقة هي أن حزب الله يظل قوة هائلة، وقادرة على استعادة قدراتها العملياتية بسرعة حتى في ظل الظروف الأكثر سوءا.
لقد أثبتت قدرة حزب الله على استعادة شبكات اتصالاته بسرعة، وإعادة تموضع مقاتليه في ساحة المعركة، والحفاظ على توازنه الاستراتيجي ضد الكيان الصهيوني المتفوق تكنولوجياً وحلفائه الغربيين، مرونته. فقد واصل مقاتلو الحزب، الذين يشبههم خصومهم في كثير من الأحيان بالأشباح، الاشتباك مع قوات الاحتلال بكفاءة غير مسبوقة.
وقد ألغت هذه القدرة على إعادة التجمع والتصدي للعمليات العسكرية العدوانية، أي ميزة تكتيكية كانت إسرائيل وحلفاؤها يأملون في تأمينها.التطور التكنولوجي والاستخبارات إلى جانب نقاط قوته التقليدية في حرب العصابات والقتال غير المتكافئ، أظهر حزب الله قدرة كبيرة على التكيف في الحرب الحديثة. فهو لم يعد يعتمد فقط على تكتيكات المقاومة التقليدية؛ بل إنه عزز قدراته التكنولوجية والاستخباراتية بشكل كبير. ويتجلى هذا التحول في قدرته على إجراء عمليات مضادة متطورة، وتعطيل مراقبة العدو، والاستفادة من استراتيجيات الحرب المتقدمة للحفاظ على التفوق في ساحة المعركة خلال الحرب الأخيرة بعد عمليات البيجر واغتيال الشهيد نصر الله.
ومع دمج حزب الله لهذه التطورات في إطاره العملياتي، فإنه يعزز موقفه ضد الكيان الصهيوني. لقد ولت الأيام التي كان فيها التفوق العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي قادراً على تحديد نتائج الصراعات. فقد أثبت حزب الله أنه قادر على مواكبة خصومه ـ إن لم يكن التفوق عليهم ـ في التخطيط الاستراتيجي والتنفيذ.
رقعة الشطرنج السياسية: استراتيجية حزب الله الداخلية في حين يظل حزب الله ملتزماً بمقاومته للاحتلال، فإنه أتقن أيضاً فن المناورة السياسية داخل لبنان. فقد وضع الحزب نفسه استراتيجياً كطرف أساسي في الحكم اللبناني، الأمر الذي يضمن أن نفوذه يمتد إلى ما هو أبعد من المقاومة العسكرية إلى عالم صنع القرار الوطني.
ومن خلال ترك التعاملات الدبلوماسية مع المحتلين للدولة اللبنانية، عزز حزب الله دوره ككيان وطني رئيسي وليس حزب عسكري معزول. وهذه الخطوة الاستراتيجية تجبر الحكومة اللبنانية، فضلاً عن الوسطاء الخارجيين، على الاعتراف بحقيقة مفادها أن معادلة “الشعب والجيش والمقاومة” تشكل حجر الزاوية الأساسي لاستراتيجية الدفاع في لبنان. وأي محاولة لتهميش المقاومة من الإطار الأمني للبلاد هي محاولة عقيمة، لأنها تظل جزءاً لا يتجزأ من سيادة لبنان ودفاعه.
إن هذا النهج يحول عبء التعامل مع المحتلين إلى الحكومة اللبنانية، ويكشف عن رفض الكيان الصهيوني الاعتراف بالحوار والدبلوماسية. وبذلك، يؤكد حزب الله أن التحرير والردع الحقيقيين لا يمكن تحقيقهما إلا من خلال القوة والفرض الاستراتيجي بدلاً من المفاوضات السلبية والآمال.
مستقبل المقاومة: قوة لا يمكن محوها
لم يكن تشييع قادة حزب الله حدثاً لإغلاق صفحة الحزب، بل كانت مقدمة للمرحلة التالية من المقاومة. لقد كانت بمثابة شهادة حية على صمود الحزب وانضباطه ودعمه العميق بين الناس. لم يكن التجمع مجرد وداع للقادة الذين استشهدوا، بل كان إعلاناً بأن إرثهم مستمر من خلال الالتزام الثابت من جانب أنصارهم.
إن قدرة حزب الله على الصمود في وجه الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية المستمرة هي نتيجة مباشرة لمرونة شعبه. لا يعمل الحزب في عزلة؛ إنه حركة تزدهر بقوة مؤيديه. لقد أظهرت مشاهد التشييع أنه مهما حاول البعض إضعاف حزب الله فإن أساسه لا يزال راسخاً لا يتزعزع.
إن المقاومة ستزداد قوة في السنوات القادمة. ومع استمرارها في تعزيز قدراتها العسكرية وصقل عملياتها الاستخباراتية وترسيخ حضورها السياسي فإن حزب الله سيبقى قوة لا تقهر في المنطقة. قد يشن أعداؤه عمليات تهدف إلى تآكل نفوذه، ولكن كما أثبت التاريخ فإن كل تحد يواجهه حزب الله لم يخدم إلا في تعزيز عزيمته.
إن تشييع السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين لم تكن لحظة حداد فحسب؛ بل كانت لحظة ولادة جديدة وتجديد وتأكيد على مسار المقاومة. لقد كانت إعلاناً للعالم بأن حزب الله ليس مجرد منظمة، بل هو حركة راسخة في قلوب شعبه، ولا يمكن لأي قوة أن تمحوها.
مدير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية
تعليقك
- إلى أين تتجه لعبة الحرب في المنطقة؟
- بشائر الفتح ووقف إطلاق النار/ إيران انتصرت؛ هذا هو الخيار الحاسم والأول
- ترامب فاشي ومجرم من الجيل الثاني من ذوي الياقات البيضاء
- دخول أمريكا في الحرب يعني هزيمة إسرائيل
- أغلب أعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس يعملون لصالح إسرائيل، وليس لصالح أمريكا
- ازدیاد الشكوك حول نجاح العملية الأمريكية الصباحية ضد منشآت فوردو
- تقریر خاص؛
- تشکیل دولة فلسطينية يفوق الإدراك السياسي للولايات المتحدة
- مادلين”.. قرصنة الصهاينة وفضيحة عالمية لحقوق الإنسان
- الإمام الخميني وتغيير المعادلات الإقليمية والعالمية
- سقوط دمشق: ليلة غيّرت الوقائع… من “الجولاني” الإرهابي، إلى ” احمد الشرع
- انتخابات المجالس البلدية في لبنان استفتاء للمقاومة
- نقاط مهمة حول فحوى الجولة الخامسة من المفاوضات بین إیران وأمریکا