2024/02/15
نسخ!

خبير ومحلل سياسي جزائري للرؤية الجديدة..

غزة بين السلة والذلة

غزة بين السلة والذلة

شاءت حكمته تعالى أن نستقبل العام الميلادي الجديد (2009) والهجري الجديد (1470) برائحة الدم المنبعثة من غزة هاشم، المغدورة، الشاهدة والشهيدة.

هي مغدورة، إذ سلمها القريب للغريب، يفعل فيها ما شاءت له أحقاده التاريخية وعقده النفسية وأمراضه العقيدية.

وهي شاهدة على مدى الضعف العربي، الذل العربي، الهوان العربي، التواطؤ العربي، الخيانة العربية، سمها ما شئت.

وهي شهيدة إذ اختار لها رب العزة ما وعد به المؤمنين المجاهدين الصابرين من النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، ومن الفوز والكرامة مما وعد به عباده وأوليائه..

وأنا هنا لا يسعني إلا أن أوجه نداء استغاثة عاجلا (SOS) إلى كل من ابن منظور، وابن فارس، والزجاج، وسيبويه، وآخرين من أرباب اللسان العربي، لعلهم يسعفونني بكلمة في القاموس العربي تعبر عن حقيقة هذا الذي يجري في غزة هاشم.

فعلى مستوى فعلة الكيان الصهيوني: ثمة من يتكلم عن مجزرة، وثان عن حرب إبادة، وثالث عن جريمة حرب، ورابع عن همجية ووحشية وبربرية…

وعلى مستوى الكيانات المسماة عربية، تتراوح الكلمات بين الجبن والخيانة مرورا بكل المفردات الدالة على العار والفضيحة.

ولكني على كل حال أسابق كل هؤلاء وأولئك لأقرر ما قرره العربي القديم عندما قال: ثمة أمور تسعها الصدور ولا تسعها السطور. فالذي يجري في غزة هاشم فاق كل التوقعات وكل الأوصاف.

وهكذا تتعددت الأوصاف والموصوف واحد، وتعددت الأسماء والمسمى واحد.

نعــم: ما هو الجرم الذي ارتكبته حماس وسائر الفصائل الفلسطينية المجاهدة والمقاومة حتى يفعل بها كل هذا؟
مواقفها السياسية المناهضة للتطبيع والتركيع،
مشروعها الجهادي الرافض لمنطق الهزيمة والهرولة نحو الكيان الصهيوني، الغاصب اللقيط،
تحملها لكل الضربات، مما فوق الحزام وما تحت الحزام،
ثباتها على مواقفها الصلبة بعشق ويقين وعدم الاتجار بها في سوق المزايدات والنخاسة الدولية،
تحريرها لقطاع غزة هاشم مرتين: مرة من دنس الصهاينة المعتدين، وأخرى من دنس أتباعهم وأبنائهم الروحيين، في جوان 2007م.

وأخيرا، لا آخرا، كشفها لوثائق سرية تفضح عناصر السلطة وأزلامها الأمنية بالتخابر مع العدو الصهيوني ومخابرات غربية ضد الكثير من الدول العربية والإسلامية، بل حتى التخابر ضد بعض الفصائل الفلسطينية نفسها. كما حدث ذلك مع حصة مع عضو المكتب السياسي لحركة “حماس” الأستاذ محمد نزال من على شاشة قناة “الجزيرة” 3 أيام فقط قبل العدوان الصهيوني على غزة هاشم.

هذه كلها مفردات تقع في طريق التكالب الصهيوني- الأمريكي- العربي الرسمي ضد المقاومة في غزة هاشم، المغدورة. ولو أن غزة هاشم وقفت من المشروع الصهيوني- الأمريكي- العربي الرسمي كما وقف غيرها لفرش لها البساط الأحمر تدوس به على قيمها ومبادئها. لكن هيهات من غزة أن تفعل ذلك، وفيها بعض روح ورائحة النبوة.

ما يجري الآن في غزة هاشم أسقط النصف الثاني من ورقة التوت التي لا زالت تتستر بها أنظمة الخزي والعار، ومعها فقهاء السلطان، فقهاء الحيض والنفاس، رغم الفضيحة التي حلت بهم جميعا أثناء وبعد عدوان تموز 2006.

حينها كان هؤلاء جميعا يضحكون (علينا أم على أنفسهم؟) عندما أعطوا العدوان الصهيوني على لبنان تبريرات تترك الواحد منا مسمرا على الأرض، جامدا، لا يعرف شرقا من غرب. أعطوا تبريرات مذهبية لخزيهم وعارهم، يسترون بها عمالتهم لأمريكا والكيان الصهيوني، وهي (أي المقاومة في حزب الله) التي لم تعط في يوم من أيامها أي صبغة مذهبية لعملها الجهادي البطولي، وقد كان بإمكانها أن ترفع شعار الطائفية المقيت عندما كانت تقاتل بمفردها أرمادة أشرس عدو وأحقره على مدى التاريخ البشري كله. في الوقت الذي كان غيرها يقاتل في أفغانستان ضد السوفيات حربا بالنيابة عن أمريكا، ولم تستغل انتصارها الباهر في ماي 2000، ولا في تموز 2006 استغلالا مذهبيا.

لكن ها هي غزة هاشم المغدورة تنزع عن هؤلاء الطائفيين ما تبقى من ورقة التوت، فعرتهم وجعلتهم على المكشوف أمام الشعوب العربية والإسلامية، وها هي تصرخ بأعلى فيها، كما صرخ الحسين بن علي عليه السلام في كربلاء: “ألا هل من ناصر ينصرني؟ ألا هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟”.. وتستصرخ فينا كذلك: “برز الإيمان كله إلى الكفر كله”.

لم يعد لأي متخلف أي عذر: غزة هاشم تذبح الآن، على مسمع ومرأى من العالم كله، بل وبمباركة من أنظمة سايكس بيكو واصطبل داود، سوى من ثلة من الأحرار أبوا أن يسكتوا على الضيم ورفعوا أصواتهم مستنكرين ما يحصل.

رئيس النظام الحاكم في مصر التي لم تعد قاهرة منذ 1979 برر إصراره العجيب على إبقاء معبر رفح مغلقا بكلمة تفوح منها رائحة نتنة: المعبر محتل، وينبغي حضور المحتل حتى يفتح. “كبرت كلمة تخرج من أفواههم”. دعوة مباشرة للإبقاء على الاحتلال وتبرير تجويع شعب مسلم، عربي جار، له على مصر ألف حق وحق.

وشرق البحر الميت حيث يقبع نظام ميت، لم تجد المظاهرات المليونية لتحريك شعرة فيه، كأنه مومياء تم اكتشافها للتو واللحظة.

ونحن نذكر ما يجري في غزة هاشم الآن، نتذكر ما حل بالحسين بن علي وبن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه و آله و سلم، قبل 1370 سنة من الآن، عندما خرج الإمام الحسين، من المدينة المنورة، إلى مكة المكرمة، ومنها إلى كربلاء، في ثلة من أهل بيته الميامين و بعض أصحابه، هم خير أهل الأرض يومئذ، رافعا شعاره الخالد: “ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، هيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، و أنوف أبية ونفوس حمية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام”. ونفس هذا الشعار ترفعه اليوم غزة هاشم.

إن الدعي بن الدعي في الحالة الكربلائية هو يزيد بن معاوية، وهو في الحالة الثانية الكيان الصهيوني بن الاستكبار العالمي. وكلاهما يرمي إلى تكريس الانحراف والظلم والاستعباد على حساب مصالح الأمة، من خلال تحطيم إرادة المقاومة والرفض لديها.

ولئن كتب الله تعالى العزة على نفسه والمؤمنين، فلقد أصبحوا مطالين بتحقيقها في حياتهم. ولئن كانت كل بلاد المسلمين عزيزة وغالية فإن غزة هاشم أولى بذلك، ففيها بعض ريح النبوة وروحها.

إن الرجال وأولاد الحلال هم وحدهم فقط من يعرفون فداحة الخطب الذي حل في كربلاء، على آل الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وهم وحدهم الذين يتحسسون ما يجري الآن في غزة هاشم، من المجازر الصهيونية الوحشية المنبثقة عن تواطؤ أنظمة الخزي والعار.

إن نفس الأنوف الأبية والنفوس الحمية التي رفضت مجزرة كربلاء ترفض كذلك مجزرة غزة هاشم. وكم شعرت بالخزي عندما علمت أن الرئيس الفنزويلي الشهم أمر وزير خارجيته بطرد السفير الصهيوني من كاراكاس قائلا له: ماذا يصنع هذا الخنزير هنا؟. مجرد صورة واحدة من على شاشة التلفزيون الفنزويلي كانت كافية لأن تهز هذا الضمير الحي.

“هوجو شافيز” أخذته الحمية مما يصنع في غزة هاشم، وتبعه الرئيس الفحل الثاني “إيفو موراليس” البوليفي. إن الرجولة لا تتجزأ، وليست قابلة للمحاصصة. نفس الصور التي هزت هذين الفحلين لم تستطع أن تحرك أنظمة الخزي والعار. إذ أن بعضهم سمح ببعض المظاهرات بالتقطير، وبعضهم منعها أصلا، وبعضهم: يا للعار، يا للفضيحة: واجهها بالرصاص، فانضافت إلى أعداد شهداء العدوان الصهيوني أعداد من شهداء الغدر العربي… وهؤلاء هم الطبعة الجديدة من اللئام الذين رفض الإمام الحسين عليه السلام أن يؤثرهم، وآثر عوض ذلك مصارع الكرام، والكرام قليل. فهم وحدهم الذين يعرفون كيف يموتون.

نعم، أقول كل هذا وفي ذهني صرخة أخرى أطلقها الإمام الحسين بن علي، هذه المرة من داخل قصر الإمارة بالمدينة المنورة، غير بعيد عن قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلقد قال لأميرها الأموي مروان بن الحكم بعد جملة أوصاف نعت بها نفسه الشريفة ونعت بها مروان: “… ومثلي لا يبايع مثله”.

أنا لا أبايع يزيد بن معاوية، بل قال: “مثلي… مثله”. ذلك لأن المسألة ليست مسألة شخصية، بين فردين، لتموت بموتهما، وتصبح بالتالي جزءا من التاريخ. إن المسألة تتعلق بمشروعي مجتمع، متناقضين لا يلتقيان أبدا: المشروع الأموي الصاد عن ذكر الله، المنحرف عن دين الله، الذي يقوده الطلقاء وأبناؤهم، مثله يزيد بن معاوية، والمشروع النبوي الذي مثله الإمام الحسين عليه السلام. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الترمذي رحمه الله: “حسين مني، و أنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا”؟….
“مثلي لا يبايع مثله” معناها أن أي شخص يحمل قيم الحسين عليه السلام من الحرية والعدالة والحق لا يمكنه أبدا أن يضع يده في يد شخص يحمل قيم يزيد بن معاوية من الخمر والمجون واللعب بالقردة…

ثمة إذن مشروع للمقاومة عبر عنه الإمام الحسين عليه الإسلام بقوله: “مثلي”، وآخر للإذلال عبر عنه بقوله: “مثله”.. والعلاقة بينهما هي التباين المطلق. تماما كما بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي جهل. وحيث وضعت أنظمة الخزي والعار يدها في يد أولمرت وباراك وليفني فهي إذن تخدم المشرع الصهيوني. وحيث تنكرت حماس لهؤلاء فهي تخدم المشروع الوطني الحسيني الكربلائي، الرافض لمنطق الهزيمة والاستسلام.
ما يجري الآن في غزة هاشم هو امتداد للمشروع الحسيني الناهض، الثائر، الرافض، بلا شك، وهذا هو المعنى الذي استظهره الإمام الخميني رحمة الله تعالى عليه عندما قال قولته المشهورة: “كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء”. وعليه: فكلما كان ثمة مشروع للظلم والطغيان واستضعاف الناس وتعد على حقوقهم كانت ثمة كربلاء وعاشوراء.

تعليقك

الصفحات الاجتماعية اختيار المحرر آخر الأخبار كاريكاتير صورة اليوم